تربية الإبداع الأدبي

د. سمير روحي الفيصل
إذا كانت منهجيّة البحث تُلزم الباحث بالترّيث والأناة في أثناء الحديث عن تربية الإبداع الأدبي لدى الأطفال، فإنها تفرض عليه بادئ ذي بدء الاعتراف بأن أدبيّات الإبداع الفنّي تشير إلى أن سن الرابعة عشرة هي الحدّ الأدنى للعمر الذي يظهر فيه الإبداع لدى المبدع في الحقل الفنّي . ففي هذه السنّ قاد موزارت أوبرا في ميلانو، ونظّم بيتهوفن حفلات موسيقية في الساحات العامة. وفي السنّ نفسها أو بعدها بقليل شرع عدد من الشعراء العرب ينظمون الشعر، كطرفة بن العبد وكعب بن زهير وأبي تمام والمتنبي ودعبل الخزاعي وعلي بن الجهم والمعرّي وجبران والشابي والجواهري وإبراهيم طوقان وغيرهم .‏ وعلى الرغم من أن أسماء المبدعين تكثر كلّما ارتفع العمر فوق الحدّ الأدنى فإن الأمر الذي لا يخطئه الباحث هو أن الإبداع الفنّي يبدأ في مرحلة المراهقة، ثم يستمر دون أن يعرف سنّاً يقف عندها. وهناك باحثون ينصّون على أن الإنتاج الإبداعي ينمو بين الثلاثين والأربعين ثم يهبط تدريجيّاً. وقد رفع بعضهم هذه السنّ إلى الخامسة والأربعين، ونصّ على أن ذلك لا يعني التحديد الدقيق للعمر الذي يظهر فيه الإنتاج الإبداعي. فقد أبدع فيردي أوبرا فالستاف وهو في الثمانين، وكتب مارك توين (جورنال حوّاء) في الحادية والسبعين، وطوَّر غراهام بيل الهاتف في الخامسة والخمسين، وحل مشكلة ثبات التوازن في الطائرة وهو في السبعين . أما مرحلة الطفولة فليس لدّي ما يبعث على الاطمئنان بإمكانية عدّها مرحلة زمنية صالحة لظهور الإبداع الفنّي. وليس في تاريخ الأدب العربي، في حدود ما أعلم، أمثلة وافرة تُعين على القول إن الطفل قادر على الإبداع قدرة الراشد عليه. وربّما لاحظنا لدى الأطفال أحياناً شيئاً من الإنتاج الأدبي، إلاّ أن المفهوم العلمي للإبداع لا يعدُّ هذا الإنتاج إبداعاً فنّياً، بل يعدّه عملاً ابتدائياً لا يرقى إلى المستوى الفنّي، ولا يعبِّر عن خبرة جمالية ناضجة.‏ وهذا يعني، أول وهلة، أن دراسة الإبداع الأدبي لدى الأطفال ليس لها أي سند علميّ ولا مسوِّغ واقعيّ. بيد أن إنعام النظر في الموضوع نفسه يقود إلى أن الإشارة إلى الحدّ الأدنى لعمر المبدعين صحيحة دقيقة إذا درسنا الإبداع من زاوية الإنتاج الإبداعي الذي قدّمه المبدعون أوّل مرّة. أيْ أن الذين حدّدوا البداية بالرابعة عشرة بالنسبة إلى الإبداع الفنّي، والخامسة عشْرة أو السادسة عشْرة بالنسبة إلى الإبداع العلمي انطلقوا في تحديدهم من دراسة سيرة حياة المبدعين، فلاحظوا أن فئة منهم نشرْت أول إنتاج إبداعي لها وهي في الرابعة عشرة، ومن ثمَّ عدُّوا هذه السنّ حدّاً أدنى للإنتاج الإبداعي.‏ غير أن أدبيّات علم النفس تنصّ أيضاً على أن الباحث قادر على دراسة الإبداع من زاويتين أخريين غير زاوية الإنتاج الإبداعي، هما: دراسة الإبداع انطلاقاً من أنه عملية عقلية ذات مراحل معيَّنة، ودراسة الإبداع ابتداءً من قدرات المبدعين وأساليب كشفها واكتشافها . وهاتان الزاويتان مهمّتان بالنسبة إلينا لأنهما تؤكدان أن المبدع بدأ ينتج في الرابعة عشرة، ولكنّ هذا الإنتاج لم ينجم فجأة دون مقدّمات، بل سبقته سنوات من الإعداد والاكتساب والاختمار هيّأت لظهوره وطبعته بطابعها، سواء أكان هذا الطابع خاصاً بجدّة الإنتاج أم أصالته أم قيمته. وهذا يقودنا إلى أننا إذا رغبنا في أن ندفع أبناءنا إلى الإبداع في مرحلة المراهقة أو في المراحل التالية عليها، فإننا مطالبون بإعدادهم لذلك في مرحلة الطفولة، وإلاّ فإننا مضطرون إلى الاستمرار في قبول الأمرين اللذين درجنا عليهما، وهما وأد كثير من المواهب في مهدها دون أن يعذّبنا ضميرنا لإهمالنا قدراً من ثروتنا القومية، وإبقاء القدر الآخر من المواهب عرضة للمصادفات التي تدفعها إلى الاستمرار في تغذية موهبتها وتنميتها وقيادتها إلى الإبداع بعد قدر غير قليل من الجلد والجهد ومغالبة الصعاب في الساحة الإبداعية.‏ وإذا كان ذلك يُسوِّغ إقدامنا على تربية الإبداع لدى الأطفال، فإنني قادر على تعزيزه وتقديم السند العلمي له. ذلك لأن العاملين في الحقل التربوي متفقون على أن الطفل لا ينمو من تلقاء نفسه، بل ينمو بمقدار ما توّفره البيئة الاجتماعية من عوامل التربية ومقوماتها . وهذا الاتفاق يُعزّز القول السابق الخاص بإعداد الطفل لدخول حقل الإبداع، ويضيف إليه أمراً آخر مهماً هو أن الإبداع ذو جذر اجتماعي. إذ أن البيئة تساعد على تفتُّح الموهبة وقيادتها إلى الإنتاج الإبداعي إذا كانت تعي مهّمتها التربوية. والعكس صحيح أيضاً. أيْ أن القضية كلها منوطة بالوعي التربوي. لأن التربية معنّية أساساً ببناء شخصية الإنسان بناءً سليماً، وقادرة على توفر المناخ الملائم لهذا النمو. ولاشك في أن الأطفال الموهوبين بعضٌ من الأطفال في المجتمع وإنْ كانوا يحتاجون إلى رعاية خاصة. ولهذا السبب شرعت أدبيّات الإبداع تهتم في السنوات الأخيرة بتربية الإبداع لدى الأطفال. بل إن هناك دراسات سعت إلى تربية هذا الإبداع لدى أطفال الرياض انطلاقاً من أن تربية القدرات الإبداعية غير مقصورة على الطفولة المتوسطة والمتأخرة، بل هي سابقة عليها، معنيّة بالسنوات الثلاث الأولى من عمر الطفل عموماً، وبمرحلة الرياض حتى السادسة خصوصاً. ففي هذه السنوات تبدأ شخصية الطفل تتضح، ويُقال إنها تكتمل، ولكنّ التربية تؤمن بإمكانية الاستمرار في تربية الإنسان من المهد إلى اللحد.‏ إن تربية الإبداع لدى الطفل ممكنة إذن، بل إنه يمكن عدُّها هدفاً من الأهداف الرئيسة للتربية في الوطن العربي، على أن نفهم هذا الهدف في حدود الإعداد والتهيئة، ولا نفهمه في حدود القدرة على إنتاج شيء جديد نافع للمجتمع. ولكي يتّضح هذا الهدف ويبتعد عن اللبس لابدَّ من القول إنني أنظر إلى الموهوب والمبدع نظرة تراتبية، يقبع العبقري في أعلاها، يليه المبدع فالموهوب. والمجتمع، أيّ مجتمع، يضمّ قدراً وافراً من الموهوبين، وقدر أقلَّ من المبدعين، ويندر وجود العباقرة فيه عادة، لأن العبقري (بحكم تعريفه هو الشخص الذي يحرز للإنسانية انتصاراً في اتجاه ما لم تحرز مثله الغالبية العظمى من أبناء المجتمع) . ويمكن القول، ضمن النظرة التراتبية، إن الموهوب يُقاس بمن هم في سنّه وعمره العقلي، في حين يُقاس المبدع بمن هم أكبر منه سنّاً وعمراً عقلياً ، وإن العبقري يتحرّر من قيود السنّ فيقدِّم إنتاجاً جديداً أصيلاً لا يستطيع المبدع تقديمه. والمرجع في القياس السابق هو الدلالة الخارجية. إذ يُعرف الموهوب في الحقل الأدبي من تفوّقه في القراءة والتعبير، وميله إلى المطالعة وتذوّق الجمال في النصوص المكتوبة والمسموعة، وقدرته على مخاطبة الآخرين وإيصال أفكاره إليهم، وإسهامه في النشاط اللغوي العام، واندفاعه الذاتي للنقد والحكم والتحليل. ويُعرَف المبدع من تحلّيه عادة بالدلالات الخارجية السابقة الخاصة بالموهوب، إضافة إلى القدرة على الإنتاج الإبداعي الذي يتصف بالجدّة. ولكنّ الجدّة أمر نسبي وليس مطلقاً، ونسبيّتها واضحة في مرحلة الطفولة، إذ تعني فيها إنتاج الجديد بالنسبة إلى الأطفال وليس الجديد بالنسبة إلى الحقل الأدبي أو العلمي في بيئتهم. ومن المفيد أن أنصّ على أن الموهوب يصير مبدعاً، والمبدع يصير عبقّرياً، إذ توافر المناخ التربوي الملائم، وإلا فإن العبقرية تُعطِّل كما يُعطِّل الإبداع وتموت الموهبة. وهذا يقودنا إلى أن تربية الإبداع لدى الأطفال يجب أن تُعْنَى بالموهوبين أوّلاً لأنهم أكثر عدداً، ولأن هذه العناية قادرة على قيادة الموهبة إلى الإبداع إذا توافرت في الموهوب قدرات كامنة تستطيع التربية إثارتها وحفزها على الظهور. وربّما برز العبقري من صفوف المبدعين إذا كانت القدرات الكامنة والاستعدادات الوراثية أكثر أصالة وميلاً إلى العمل.‏ أستطيع؛ بعد الحذر المنهجي السابق، اقتراح العناية بالأمور الأربعة التالية، وأنبِّه قبل تفصيل القول فيها إلى ضرورة
توافرها كلها مجتمعةً، لأن الخلل في أمر منها يقود إلى خلل تربية الإبداع الأدبي لدى الأطفال .‏
المنـــــاخ العـــــام للإبـــــداع  طبيعة المجتمع الذي يعيش فيه المبدعون   
المنــــاخ الخــــاص للإبــــداع  يعني وعي طبيعة الموهوبين والمبدعين   
سمات الإبداع الأدبي وقدراته ‏ شخصيّات المبدعين والقدرات الإبداعية التي يملكونها بغية الإحاطة بعملية الإبداع   
                 وضبطها والسعي إلى تنميتها                                        
تربيـــــة الإبـــــداع الأدبــــي إذا توافر المناخان العام والخاص للإ

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *