أشرت في ما كتبته بعنوان ”هل الشعر إلى زوال؟” إلى استفتاء أجرته مجلة ”الآداب” في العدد الأول من العام 1955 بعنوان ”مستقبل الشعر العربي”، شارك فيه عدد من الشعراء والنقاد والكتاب، من عدد من الأقطار العربية
وقد وفرت لي نسخة من استفتاء مجلة ”الآداب” لأتمكن من مراجعته، القاصة الأردنية أنصاف قلعجي التي طالما أثقلت عليها بطلباتي
إن مجرد طرح سؤال، بشأن مستقبل الشعر، من مجلة لها وزن مجلة ”الآداب” وتأثيرها وانتشارها، أيامذاك، يعني، أن إحساساً بالقلق يُساور بعضهم بشأن مستقبل الشعر، وهذا ما سبق لي أن بينته في مقالتي ”هل الشعر إلى زوال؟”، غير أن واحداً من بين جميع الذين قامت باستفتائهم ”الآداب”، هو عدنان الراوي، كان متشائماً من مستقبل الشعر العربي قائلاً: ”وإن الرعب يتملكني، كلما تذكرت الذرة والهيدروجين، وأنهما ملك للحمقى الذين يلعبون دوراً في التاريخ”، بينما قال أحمد زكي أبو شادي: ”إني جد متفائل بمستقبل الشعر العربي الحديث”، وقال جبرا إبراهيم جبرا: ”المستقبل للشعر الطليق من القيود العاتية”
أما زكريا الحجاوي فقد قال: ”إني متفائل وواثق من انتصار الشعر الجديد، لأن الرواد من شباب هذا الجيل، قد شقوا الصخرة العاتية في مقدمة الطريق”، وقال د.بديع حقي: ”أنسج في خيالي صورة حلوةً رفافة عن مستقبل الشعر العربي الحديث”، وذهب رئيف خوري الى أن ”الشعر ضروري لا كمالي، لأنه خبز الروح، والروح لا بد لها من خبز كالبدن”
أما خالد الشواف، فقد اعترف بصعوبة التكهن بما ينتظر الشعر العربي في مستقبله، وتوقّع: ”أن الشعر العربي سيجنح الى الامتلاء في الموضوع والمضمون والمحتوى، بقدر ما يجنح الى الضمور في البناء والتركيب والاسلوب”، وأكدَّ جورج صيدح ”إيمانه بمستقبل الشعر العربي الحديث”. اما صلاح عبد الصبور فقد رأى: ”ان ما يدعو الى التفاؤل، أنا نلمح في كثير من الإنتاج الشعري الحديث موقفاً فكرياً ناضجاً”
ورهن سلامة موسى مستقبل الشعر بـ”موقف الانسان، الانساني، الذي يحب الشعر ويؤلف القصائد عن حياته”. وقال جوزف نجيم: ”هات تحرراً مثقفاً، وخذ شعراً فنياً مثقفاً”، ورأى رجاء النقاش أن الشعر العربي، ”في محاولته الدائمة للالتقاء بغيره من الاشكال، سيكون في المستقبل أعمق وأكثر غنى من حاضره ومن ماضيه”
إن ما اجتزأته من آراء الذين شاركوا في استفتاء ”الاداب”، قبل ما يزيد على نصف قرن، يوضح أن ليس من مشارك، قال باحتمال زوال الشعر في زحمة متغيرات هذا العصر، ولم يجرؤ أي واحد منهم على مثل هذا القول
إذ كنت أحدث صديقي الشاعر خيري منصور عن استفتاء ”الآداب”، وآراء المشاركين فيه، وما قاله عدنان الراوي استثناءً، أجاب بحسم: ”ليس الشعر العربي مهدداً بالزوال. إنه يفصح عن هواجسه ازاء شعره”، ثم قال: ”يكون مثل هذا الزوال الشعري، اذا صار الانسان الى الزوال، والشعر ليس (النصوص)، إنه مساحة حلم الانسان في ترميم الواقع، لأن الواقع ناقص، وأقل من المحلوم به، فإذا كانت مرحلة ما بعد كل شيء، ما بعد الحداثة، ما بعد الوطن، ما بعد الحب، فأنا اخشى أن نعيش مرحلة ما بعد الشعر، وهي على الارجح لن تكون والانسان موجود”
ما قاله خيري منصور، دفعني للتفكير، باستقراء آراء شعراء وباحثين، حول الموضوع نفسه، لمعرفة توجهاتهم بشأنه، بعد ما يزيد على نصف قرن من الاستفتاء الاول، واذ عدت الى مقالة سامي مهدي ”الشعر وتحديات الموت والحياة”، وجدته يرى ”أن الشعر لا يزول، وقد يتوزع في أجناس أدبية أخرى، هو أحدها”. أما د.ادريس الناقوري في كتابه ”الاطروحة والتأويل” فيرد على الذين يذهبون الى القول بزوال الشعر في زمن العلم قائلاً: ”وجد العلم ليحمي الشعر ويغذيه ويطوره ويساعده على استمراره وازدهاره”
ويذهب عبد الله زكريا الانصاري الى ”ان منزلة الشعر حتى في عصر الكمبيوتر، تبقى هي الاعلى وهي الاهم، لأنها من صميم الانسان، في صميم جوارحه ومشاعره، بل إنها في صميم خلقه وستبقى معه ما دام يتنفس الحياة”. ويتفق الشاعر خالد محادين، مع ما قالته د.شرى موسى صالح، من أن ”الشعر في وجود دائم”، ويعلق قائلاً: ”التراجع ليس غياباً، وكذلك ما يحدث من تغيير في تسلسل أوليات أجناس الكتابة”
كتب لي عبد الرحمن مجيد الربيعي: ”ارى ان الشعر، الى رسوخ وانتشار، فهو تبر الكلام وخلاصة اللغة، وما نزال نلجأ إليه فنزده احتفاءً أوحكمة. دعيت يوماً لمطعم دمشقي في باب توما، فما تذكرت إلا ما قاله محمد الماغوط: (حلوة عيون النساء في باب توما)”، وحين سألت د.مصطفى الكيلاني إن كان الشعر الى زوال، أجاب: ”قد تتراجع القصيدة في أزمنة دون اخرى، ولكن الشعر، بمعنى -الشعري- حاضر في كل الازمنة، هذا الذي يمثل في مختلف الاعمال الفنية، أو يتسع مداه ليشمل الرواية والقصة القصيرة، والنص المسرحي، ويتجاوز دائرة الآداب الى السينوغرافيا والسينما والرسم والموسيقى”، وإذ وجهت السؤال الى راشد عيسى اجاب: ”الشعر لا يزول، إنه بركان يهدأ، ليعد نفسه على مهل لثورة قادمة، وهو مثل شعب مقهور، يبدو مُـستكيناً، غير أنه يعيد إنتاج أحلامه بهدوء، فالشعر سيـّد الفنون، وأهم ملعب من ملاعب الوهم”
وهكذا، يبدو واضحاً، في الاستفتاء الثاني، في العام 2007 ، ان كان بالإمكان ان نعد ما أثبته من آراء بشأن مستقبل الشعر، استفتاءً، ان التفاؤل بمستقبل الشعر، لم يتغير، كما تؤكد ذلك الآراء التي قرأناها
وهذا يعيدنا باطمئنان الى قول الرسول العربي: ”لا تدع العرب الشعر، حتى تدع الإبل الحنين”