الشاعر عبدالله الخشرمي

الشاعر عبدالله الخشرمي أحد شعراء القصيدة الحديثة في المملكة، تلمح في شعره أبعادًا من العمق والوعي والجسارة، فالشعر لديه هو النهر والصهيل والطلقة، والقصيدة الحديثة لديه هي قصيدة هذا العصر البالغة أقصى تخوم التجاوز الرصين.

صدر له عــدد من المجموعات الشعرية المتميزة، وإصدارات وثائقية أخرى في الميدان الاقتصادي، وهو لم يكتف بعملية الإبداع، ولكنه آثر أن يمارس صياغة المستقبل الثقافي، فأصدر عددًا من المطبوعات الصحفية، لعل أبرزها مجلة (النص الجديد) التي أصدرها بعض أدباء المملكة بجهد جمعي جميل.

في هذا الحوار يتحدث عبدالله الخشرمي عن تجربته الشعرية ويدافع بعنف عن القصيدة الحديثة..

>> ما وظيفة الشعر الحقيقية من وجهة نظرك؟

ـ عندما يكتشف الإنسان أنه صار شاعرًا، لا يملك إلا أن يؤدي رسالة الشعر، ورسالة الشاعر في تصوري رسالة مهمة، فهي ليست رسالة عمر، وليست رسالة موظف في مكتب، رسالة الشاعر هي الإسهام في صياغة فكر الأمة وتشكيل وإضاءة ضميرها، إنها في تصوري أهم الرسالات، لأن الموظف فرد عندما يحسن عمله فقد يؤثر في الموظف الآخر، والجندي يؤدي رسالته للجبهة التي يحميها، ولكن مشكلة الشاعر أنه يحمل الكلمة المدفع، الكلمة الطائرة، الكلمة الشمس هذه الكلمة تجتاح البشر وتؤثر فيهم، قد تغير مجرى حياة أمة بكاملها هذا هو الشاعر الحقيقي، فأنا في تصوري أن الشاعر مطلوب منه أن ينتج جزءًا من مستقبل أمة، من هم أمة، ومن حلم ومطمح أمة، هذا في اعتقادي هو لب الدور الذي يجب أن يضطلع به الشاعر.

>> إن صح التصنيف، بصفتك شاعرًا حداثيًا.. ما ردك على الحملة الهجومية التي تتعرض لها الحداثة في العالم العربي؟

ـ أولاً أنا ضد فكرة التصنيف، شاعر حداثي وشاعر تقليدي، الشعر هو الشعر في كل العصور، ولكن سيرًا مع النقد ومع الدلالة فقط للمعنى أقول.. كانت الحداثة تعامل كأنها جريمة أو كأنها عمل مسيء، ولكن بإمكاننا أن ننظر إلى الأشياء بوجهين، عندنا مثل بسيط جدًا في المجتمع السعودي يقول «الإنسان ينظر بعين طبعه»، عندما يكون داخل الإنسان جميلاً فهو لا ينظر للأشياء التي تأتي إليه إلا من نافذة الجمال، نافذة الضوء، وليس من نافذة العتمة، نحن نظرنا للحداثة كشعراء من وجهة النظر المضيئة، هناك من يحاول أن يـجتـزئ بعـض الأبـيات، أو يستخدم الحداثة كسلم لإطلاق هجومه لحماية العقيدة، نحن أكثر الناس حرصًا على عقيدتنا، وأكثر الناس حرصًا على قيمنا وبلدنا، لقد جاءت القصيدة الحديثة في ثوب أقرب ما يكون إلى التراث، بل إن أعمق طرح إبداعي يتصل بالتراث يتمثل في القصيدة الحديثة، لأنها توخت أن تكون ذات دلالة متفردة، وذات لغة تختلف عما استهلكناه من صور مستهلكة مكررة، جاءت القصيدة الحديثة لتعبر عن نفسها بوجود آخر، بمعنى أنها أخذت الصورة المبهرة المبدعة، ولكن الذين تعودوا على استهلاك واجترار الصور الكلاسيكية في القصيدة التقليدية يرفضون كل منتج جديد مبهر، التلفاز عندما ظهر رفض، والهاتف عندما ظهر حوكم -حتى في الغرب- باعتباره جزءًا من السحر، أيضًا هذه اللغة سحر وبنيان وبيان، وهذا البيان عندما يأتي بشكل مبهر أتصدى له طالما لا أمتلك سره، ولا أرفضه كما ترفض بعض العقليات المنتجات الحديثة فالحاسوب مثلاً لا يستوعبه بعض الناس، بينما هو يصوغ أممًا بكاملها، أيضًا القصيدة الحديثة جاءت لتصوغ حلم أمة بشكل جميل، وبلغة أقرب للتراث من المستهلك الحالي.

ولكن أصبحت القصيدة الحديثة كما قلت الآن هي المسيطرة حقيقة على ذاكرة الشعر بكل قيمها، وعلينا أن ننظر إلى القصـيدة الحديثة كـوهـج جميـل متـجـدد لا يجتر الماضي، ولكنه يضيف للتراث، ويعتبر إضافة إليه فالقصيدة الحديثة تعتبر في حد ذاتها تراثًا، وفي المستقبل سوف يقال عن القصيدة الحديثة إنها تراكم تراثي وليســت عبئًا أو هامشًا أو تطريبًا أو مسخًا للتراث، ثم نبحث عن الجديد، وتصبح القصيدة الحديثة حينئذ قصيدة تراثية قديمة، وستأتي بعدها أجناس وصور مبهرة تعتبر قصائد حديثة.

أما هذه الأجناس المستهلكة التي تجتر ماضيها وهي القصيدة الكلاسيكية فلن تكون أبدًا في ذاكرة التاريخ على الإطلاق، ولكنك تستطيع القول بكل فخر: إن أبا تمام والمتنبي من أقوى شعراء الحداثة في التاريخ العربي بل في العالم بأكمله، ومازالت قصيدة أبي تمام والمتنبي حديثة لأنها تخفي داخلها النص الباهر المذهل الذي خلد إلى اليوم.

>> قضية الغموض في الشعر الحديث، من أهم القضايا الدائرة حول الشعر الحديث، فما هو تفسيرك لها..؟

ـ إنني أعتبر الغموض غموضين، فكما قلت لك أنا أعتمد في تفسيري للظواهر على المقارنة بين القصيدة الكلاسيكية والحديثة.

هناك قصيدة مقفاة ولكنها تخفي داخلها النص المبهر، وهـنـاك من يســتغل الأشكال المقفاة فينظم.. وهو بذلك (نظامة)، وفي جانب القصيدة الحديثة هناك أيضًا من اتكأ على قضية الغموض في القصيدة الحديثة، فبدأ يتكلم ويهذي بأي كلام عملاً بأنه غموض، ولا أحد يستطيع أن يفرق بين الجنس الطيب من الرديء، القضية إذن متساوية، فكما أن هناك اتهامًا للقصيدة العمودية يوجد اتهام للقصيدة الحديثة، ولكن هناك -بكل أسف- من يريد أن يتسلق هذه الموجة متعمدًا الغموض في القصيدة الحديثة، بينما في الحقيقة يوجد غموضان:

هناك غموض أشبهه بغموض الغبار ليـــس فيه خـير، وهــو غمــوض باهـت لا عمق فيه، وإنما هو غبرة لغوية تلقفها من هنا وهناك وأصدر بيانات غرائبية الشكل ليس فيها معنى، وهذا الغموض عبء على القصيدة الحديثة.

وهناك غموض أشبه بغموض السحب، وغموض السحب يهطل مطرًا، وعلينا أن ندخل في هذا السديم، علينا أن نكتشف مكامن الإبداع في هذا الغموض الجميل وهذا أبعد ما يكون عن التغريب أو الطلسمة، لا طلسمية في الشعر الحديث الحقيقي، ولكن هناك قصيدة محتقنة بالغيوم، عندما تأتي الشموس الواعية وهم المتلقين لملاقحة هذه الغيوم، يهطل المطر.

>> إجابتك توحي لي بسؤال غير معد، لماذا لا تكون هناك قصيدة عمودية بقالب حداثي ولماذا لا نحاول جميعًا دعم وترسيخ هذا الأنموذج الجديد؟

ـ أود أن أوضح حقيقة مهمة، وهي أن الشعر لم يخلق بصورته أو كينونته، فأنت لا تجد الشعر العربي في بدايته على شاكلة واحدة فهناك الشعر المرسل، وهناك الشعر الرجز، وهناك الشعر الذي يتعمد أكثر من نهاية للقافية، لماذا تعددت هذه الأشكال؟ لأن الشعر موهبة، بحيث أنك لو تعلمت اللغة الألمانية أو الصينية ستتحدث بالشعر الصيني أو الألماني لأن داخلك موهبة إبداعية ليست محكومة لا بلغة ولا بضرورة شكل للغة، إنما الموهبة الشعرية تتحدث عن نفسها.

>> توقعت الشاعرة العراقية “نازك الملائكة” في كتابها (قضايا الشعر المعاصر) نهاية الشعر الحديث وقالت بالنص «وسوف ينصرف عنها أكثر الذين نادوا بها» فما تعليقك على ذلك؟

ـ هناك مبادئ وقيم جميلة في الحياة، وهناك من نادى بهذه القيم في الحياة مثل الديموقراطية وشعارات الحب والفرقعات، نادى بها أشخاص وتنازلوا عنها، وفي القصيدة الحديثة لا يعني أن ينادي أحد من الرواد بها ثم ينصرف عنها أنها أصبحت ملغية بمجرد أن انصرف عنها، إذن فالقضية ليست قضية فرد، ونازك الملائكة مع احترامي الشديد لها لا أعتقد أنها من رواد الشعر الحديث في معطياته وصوره الحقيقية، نازك الملائكة هي فقط صاحبة تجربة ولكن إذا ما ذكرت التجربة الحديثة الباهرة فهي تذكر لبدر شاكر السياب، وصلاح عبدالصبور، وأمل دنقل، وعبدالمعطي حجازي، والبياتي، وبلند الحيدري.

سأقول لك من هم أولى بالريادة حتى على هؤلاء، إذا كانت بالتجربة، علي أحمد باكثير، هذا الرجل من جنوب الجزيرة العربية، درس في مصر وعاش بها، وله تجربة سبقت هؤلاء جميعًا، ولكن هل نستطيع القول أنه قدم النص الباهر المذهل؟ هذا المأزق نفسه وقعت فيه نازك الملائكة، لأنها لم تقدم هذا النص المذهل بل كانت محتقنة بالحزن، ولكن ليس كحزن الشابي ولا كحزن السياب، كان حزنًا غريب الطبع، وكتبت القصيدة الحديثة ولكن ليس بالشكل الرائع، وكأنها جارت الموجة، وهي عندما تقرر من عندها بمصادرة الرأي الآخر لا يعني بأنها وقعت صك الوفاة، لن تموت القصيدة الحديثة لأنها ولادة آن لها أن تشكل وتصوغ مرحلة بكاملها، وقد تأتي مراحل أخرى كما قلنا ستعتبر فيها القصيدة الحديثة من التراث، ولكن لن تكون أبدًا ملغاة من ذاكرة التاريخ.

>> يقولون “أجمل الشعر أكذبه”، ويقولون أيضًا “أجمل الشعر آلمه” فإلى أي من المقولتين تميل..؟

ـ بالتأكيد هذه عبارات لم تصدر من غير شاعر، لأن أجمل الشعر أصدقه وأعذبه، ويبدو أن كلمة (أعذب الشعر أكذبه) كانت للتطريب، لأن أعذب وأكذب عبارة فيها جزالة وجرس موسيقي فقالها على سبيل المداعبة.

أما العبارة الثانية (أجمل الشعر آلمه) أعتقد أنها أقرب للحقيقة، لأنني أعتقد أن الحزن نبت في واحة الشعر، والمنشأ الحقيقي للشعر أن يولد في الحزن وليس في الفرح.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *