أنور بدر
دمشق :- للعام الرابع علي التوالي تستضيف محافظة الرقة مهرجان الشعر العربي الذي أقيم ما بين السابع والعاشر من نيسان (ابريل)، حيث توزعت نشاطاته ما بين مدينتي الرقة والثورة بواقع أمسيتين متزامنتين يومياً
لكن فعاليات هذا المهرجان فاضت عن حدود القراءات الشعرية، إذ تمّ افتتاح معرض تشكيلي للفنان سامر عبد الغني، ومعرض الكتاب العربي لدار الفرقد، ومعرض الشعر العربي لدار الينابيع، كما قدمت فرقة الرقة للفنون الشعبية فرقة إسماعيل العجيلي استعراضاً غنائياً راقصاً متميزاً في حفل الافتتاح
وأهم ما يميز حفل الافتتاح لهذه الدورة كان تكريم الشاعر السوري إبراهيم الجرادي الذي ولد في الرقة عام (1951)، لكنه مقيم في صنعاء يُدرّس النقد المقارن والحديث في جامعتها منذ سنوات
إبراهيم الجرادي نال الدكتوراه في الأدب المقارن بدراسة الأشكال في الشعرين الروسي والعربي 1980-1960 من الاتحاد السوفيتي سابقاً، لكنه كتب الشعر مبكراً، كما كتب الدراسة والقصة، واشتغل في الترجمة والنقد، وله قرابة العشرين كتاباً مطبوعاً، والعديد من الدراسات والمقالات الموزعة في الصحف والمجلات الأدبية
قرأ علينا الجرادي قصيدتين: الأولي بعنوان لست محظوظاً لكي أغفو علي وتر وناي
أنة الصوت التي أدركتها في الذئب
قادتني
إلي ما يجعل الذئب صديقي وترفقت كثيرا
بالذي غادرني سهوا
وأهداني أساي
لست محظوظا لكي أغفو علي وتر وناي
كما قرأ قصيدة كلاسيكية بعنوان من يوزن الرعد يرد فيها علي أحد الشعراء الذي يطالبون بكتابة قصيدة موزونة ومقفاة، وهو في كلتا القصيدتين كان من حيث الشكل خارج المشهد الشعري المتمرّد الذي رسمه منذ ثلاثة عقود تقريباً، وإن كان أميناً له من حيث المضمون باعتباره لا يتخلق إلا بهذه الطريقة
ثمّ قرأ علينا كل من الدكتورة جمال خضور والأستاذ خالد زغريت شيئاً من النقد والتقريظ من تجربة الجرادي، كما فعل لاحقاً الدكتور سعد الدين كليب، ومن ثم كان التكريم من المهرجان بأشخاص المحافظ وأمين الفرع ومدير ثقافة الرقة. كما كرّمه كذلك الشاعر التونسي يوسف رزوقة باسم حركة شعراء العالم وفعل كذلك الفنان جورج شمعون بإهدائه لوحة فنية من رسوماته باسم مثقفي الرقة
أقيمت هذه الدورة من مهرجان الشعر العربي تحت عنوان الشعر العربي الحديث ما بين الهوية والمعني وهو عنوان إشكالي يوحي بوجود هوية ثابتة ومعني ثابت في الشعر العربي الحديث، مع أنّ الشعر لم يعرف ثباتاً في الهوية أو معني، لا في قديمه ولا في حديثه، لأنّ الهويّة تخلّق مستمر عبر العملية الإبداعية وليست إرثاً متحققاً في الماضي، كذلك المعني نراه متمرداً علي محاولات التأطير بقدر ما يتيح لنا من إمكانيات علي التأويل وقراءة الظلال المتعددة للنص وما خلف النص أيضاً
وهذه الإشكالية كانت حاضرة في الندوات النقدية التي رافقت المؤتمر والتي تنوّعت ما بين جلسات نقد عامة وأخري تطبيقية تتعلق بما سمعناه من الشعر، لكن متابعة هذه الجلسات شكلت إحباطاً للكثير من جمهور الشعر والشعراء أيضاً وحتي لقسم من النقاد، خاصة وأنّ ما استمعنا إليه تاه أغلبه في منعرجات التنظير، حتي أنه شكل عبئاً علي المتابعة السمعية. فيما لجأ آخرون إلي التأريخ كالدكتور غسان غنيم الذي استفاض في المقدمات حتي أنه اختزل الراهن من المشهد الشعري السوري، ولفت النظر أنّ بعض النقاد قدموا مقولات جاهزة وتبنوا أحكاماً نقدية وصلت في بعض الأحيان حد السذاجة، والأهم أنّ أياً منهم لم يذهب في تأكيد مقولاته من خلال الدراسة العيانية، وحتي الدكتور هايل الطالب الذي حاول مقاربة عيانية للشاعرات السوريات في حقبة التسعينات كان ظالماً لهنّ بالقياس إلي الإنتاج الذكوري في شعر تلك الحقبة
الشاعر الإسباني رامون مارينا الذي شارك في هذا المهرجان اعتبر هذه الظاهرة عامة وليست محلية فالشعراء هم الذين يقع عليهم عبء التقدّم في الشعر، واجتراح الحداثة، والنقاد سيفهمون ذلك يومأً ما .
بينما كتب الشاعر التونسي يوسف رزوقة في وصف هذه الإشكالية
ما الشّعر؟
فالنقّاد إن وجدوا فلاسفة وتلك مصيبة كبري ولا قانون للشعراء يحميهم من الظّلم العظيم بعيداً عن الإشكالية النقدية للشعر الحديث ما بين الهويّة والمعني، نستطيع القول بقدر من الثقة أنّ المهرجان في دورته الراهنة قطع شوطاً كبيراً باتجاه الحداثة الشعرية، إذ غابت القصائد الكلاسيكية من حيث الشكل نهائياً، وحضر شيء منها في إهاب قصيدة التفعيلة، لكن السيادة كانت لقصيدة النثر. مؤكدين باستمرار علي تباين الأصوات والتجارب التي استمعنا إليها ففي شعر التفعيلة كان الحضور الأقوي للشاعر للبناني محمد علي شمس الدين الذي قرأ علينا من مقامات الرقة إلي مقامات الحيرة بعضاً من أشعاره، مبتدئاً من الطريق إلي الرقة الذي أغشاه الغبار مكاناً ولونه الفرات زماناً وشعراً
لم أكن أعلم أن الفرات بعيد ولكنه أنا الآن أرفع كأس الفرات
وأشربه عالياً
عالياً أشرب نخب الفرات
فوق هذا الغبار الذي في السماء
وفي مقام الحيرة قرأ قصيدة رؤيوية تلعب علي المفردات الصوفية للوصل واليقين الذي لا يدركه العادي
يغمض عينيه علي الأشياء
فيبصر كنه الأشياء
رجل يسكن في وحدته
ويخط سطورا يدعوها الأحوال
رجل يرسم أشخاصا من ورق
أو من قلق وسؤال ويقول لهم: قوموا لنري
في المقابل جاءنا الشاعر يوسف عبد العزيز من الأردن يمتطي حصان الخطابة حتي في المواضع التي لا تتحملها مفردات النص، تخيّل صُراخاً خطابياً في عبارة سأعيد للمكان بوح الصدي مثلاً. وهو ما يذكرنا بسلوم حداد حين لعب دور الشاعر المتنبي ، فكان يلقي قصائد الغزل والحكمة بالحماسة الخطابية ذاتها لأشعار الحرب علي سبيل المثال وهذه الخطابية تشكل أحد مآزق الشعر الحديث الذي خرج علي العروض الكلاسيكي وبحوره الموزونة، فحاول بعضهم أن يستعيض عن ذلك بخطابية تتلاعب في الإلقاء ونبرات الصوت لتحميل القصيدة شحنة انفعالية وإيقاعات موسيقية، سرعان ما نفتقدها عند الطباعة، إذ تعود القصيدة متاحة للقراءة الحرة، وعليها أن تصل إلي قارئها بدون تلك الشحنات المحملة لفظياً/ صوتياً للإلقاء مع أن المساحة القائمة بين رؤيوية محمد علي شمس الدين وصوفيته المتوهجة، وبين خطابية يوسف عبد العزيز شغلتها أسماء وتجارب متنوعة في هذا المهرجان من نزار بريك الهنيدي ومعاذ الهويدي من سورية، إلي الشاعر المصري عزت الطيري الذي لعب علي ما يشبه فلاشات قصيدة النثر، لكنه في إطار التفعيلة
قصة حب
منذ عامين انتهينا
والهوي فض عهوده
منذ يومين التقينا
في جريدة
أنت في ركن الزفاف
وأنا تحت قصيدة
وصولاً إلي الشاعر اليمني أحمد العوضي
مرّ غيم الموت. أسراب الجراد. حجارة السّجيل. بارود الحروب. ومرّ جوع الأرض. لم تمت المدينة. رتّلت صلواتها جهراً. تبسّم وجهها المعجون بالتقوي. اعتلت عرش المحبة والدعاء. عصيّة التفسير. شرشفها فضاء اللّه.تأخذ في التدرّج من مقام الدهشة الأولي إلي الإشراق في آياته. وتهمّ بالنجوي: حديث الروح في أسفاره الكبري.حصي التسبيح. أسماء المدينة لا تعد. كأن قامتها ـ المدي المنقوش ـ تسلب كلّ موهبة مداها في التخيّل والكلام
حضور قصيدة النثر كان الأقوي في هذا المهرجان، وجاءت المشاركات المتنوعة من المغرب العربي لتؤكد أهمية المثاقفة والتأثيرات الغربية فيما سماه الشاعر التونسي يوسف رزوقة الأنثورة الشعرية وهو الذي يكتب الشعر بخمس لغات، يحاول من خلالها أن يخلخل السائد في متن الشعر العربي الحديث، يحاول إعادة تشكيل الصورة الشعرية، وإعادة تأهيل بنية اللغة الشعرية لتستوعب المنجز في القيم الجمالية والروحية وصولاً إلي قيم العولمة والحضارة الرقمية
وها …. أنذا هنا
أجري وراء قصيدة
هي نفسها تجري بغير هدي
وراء سفينة تجري
ولي أن اسأل الآن الفراشة: من أكون؟
هويتي
المعني الذي سأكونه
وهويتي
المعني الذي سأخونه
وهويتي
أن لا هوية لي علي الاطلاق
في مستنقع الشيء المنمط
هكذا هو
هكذا هي
هكذا فسد الهواء
وهكذا تهوي الصروح
وهكذا يهوي الذين إذا رأوا قمرا بكوا
بل هكذا تجري الرياح
وهكذا
كذلك كان حضور مصطفي بدوي من المغرب لافتاً للانتباه، إلا أن الشاعر الليبي صالح قادريوه كان مفاجأة حقيقية بالنسبة للكثيرين، وبشكل خاص لجهة الجرأة في قراءة المساحة المهمشة ما بين الذاتي والعام:
هذا ما سأفعله باسمك
سأكتبه علي جدار في شارع مظلم
ليبول عليه السكاري العابرون
سأكتبه في المناشير السرية
ليمزقه المخبرون
سأرسمه علي وجه تمثال زعيم متخم
ليبصق عليه الفقراء
سأعلقه علي حبل غسيل واطئ
بمساكة سميكة
ليركل الأطفال كرتهم نحوه
هذا ما سأفعله باسمك
سأجعله اسم دخولي في موقع ياهو
ليطلق القراصنة فيروساتهم عليه
بدوره كان الشاعر العراقي هاشم شفيق قامة مهمة في هذا المهرجان:
يتابعُ الأعداءَ
سائرينَ في الأفق والفضاء
حاملينَ قرية
مدينة
علي رؤوسهمْ
ومختفينَ في دبابة جوية
هناكَ خلفهم حسنْ
ليضبعَ الوحوشَ
يأكلَ المدي
يلوكَ سيفهمْ
وينهش الطائرة الحربية الأولي حسنْ
كما حاول الدكتور أحمد الحافظ ابن الرقة أن ينثر علينا شظاياه صورا مكثفة
في الريح جمراتُ مَطَرْ
مُرْخِيَةً جذورَها
تَعْري الكرومْ
باغَتَ الوقتَ نَصْلُ المساءْ
للحفيف صدي طعنةٍ،
بقعةٌ من دمٍ في قميص السماءْ
المشاركات النسائية في هذا المهرجان كانت متميزة أيضاً، ست شاعرات يمثلن نماذج من الحداثة الشعرية، احداهن فقط ريم قيس كبة عراقية مقيمة في مصر اتكأت علي شعر التفعيلة لتقول غوايات الأنوثة في علاقتها مع الآخر
ولماذا الليلُ بمعطفه الأبويِّ / .. يُربِّت فوق جبيني/ويحاول عند الفجر/
ـ إذا سنحت زقزقة ـ
أن يوصي الصبح بقلبي رفقًا؟
ولماذا
يخشي أن أمضي صوب البحر
بجسم
عارٍ من ملح
أو سمك يحيا في الماء المالح؟
سأظل
أسير
أسير
أسير
وحتي عتبة باب البحر هناك
سيمكنني أن أشتم كل لغات العالم كل الناس
وألعن زمنًا قالوا عني فيه بأني ماء عذب
لكن خمساً منهن أبدين ثقة في اجتراح قصيدة النثر، وأغلبهن حملن تجارب متميزة: ميسون صقر الإماراتية، ربيعة الجلطي من الجزائر، هدي الدغفق القادمة إلينا من السعودية، والشاعرة السورية رشا عمران. وتبقي المفاجأة الأهم بين هذه الأصوات النسائية طبيبة سورية تعتلي المنبر لأول مرة بعدما أصدرت ديوانها الأول باسم تمسك بقلبك جيداً إنها الشاعرة سهام السلمان
قرأت ميسون صقر من ديوانها الأخير أرملة قاطع طريق
وحين تطير الستارة الحمراء من النافذة
ويسيل الدم علي الضوء
تنجرح الغرفة في خدها برفق
ولا تصمد أصوات الريح في صوتنا
إذ ما دامت الستارة حمراء فإنها
ستسقط الغرفة مصابة بالرغبة
وسيسقط الضوء مشكولا في رئتيها
وتخرج السجاجيد والكراسي مهرولة
فيما قرأت ربيعة الجلطي ثلاث قصائد هي نشيج الغرانيق، أوجاع شجيرة أكاسيا، جلساء، تقول
إن الفتية الغرانيق
يأخذون من كل حلم زوجين
ومن الصبر صبرين
وأغنيتين في فانوس